الآف المصريين يشـــــــــيعون جنـــــــــــازة صاحـــــــــــب العلـــــــــــم والإيمــــــــــان٩٨ گتابا في الأدب والعلوم الدينية والسياسية والفلسفية ترگها المفگر والأديب الراحل
تحقيق:
مصطفي عبد الله
عادل دربالة
أمنية سعيد
اخبـــــــــــــار اليـــــــــــومبعد صراع طويل مع المرض رحل عن عالمنا صباح أمس الدكتور مصطفي محمود.. العالم والمفكر والمبدع عن عمر يناهز 88 عاما في نفس المركز الطبي الذي اسسه هو وشقيقه المقيم في ألمانيا ملحقا بمسجد محمود الذي يحمل اسم والديهما ليتيح العلاج لألوف الألوف من المصريين البسطاء والعرب أيضا.. رحل مصطفي محمود ولم يترك لابنه أدهم وابنته أمل سوي دعوات المحبين ممن شملهم بمحبته واتاح لهم فرص العلاج والاقتراب من المولي عز وجل عبر إضاءته لجوانب الإعجاز العلمي وقراءاته لمعجزات الخالق في مختلف مناحي الحياة، وكذا عشرات العناوين من الكتب التي صدرت منها طبعات عديدة في التفكير والإبداع والتأملات والسيرة الذاتية، فخرجوا بالمئات للصلاة علي جثمانه ظهر أمس بمسجد محمود ثم حمله علي أعناقهم، في حين أرسلت النقابات الفنية والاتحادات الأدبية باقات الورود.
ويعد الدكتور مصطفي محمود أنموذجا للإنسان المصري المحب لوطنه والإيجابي في طرح الحلول لقضاياه ومجتمعه، كما أنه مثال للعقل الذي يجمع في نفس الوقت بين قدرات الإبداع العلمي وقدرات الإبداع الأدبي والفني أيضا، فقد كان يمضّي أمتع أوقاته وهو يعزف علي آلة العود أغانيه المفضلة وسط خلصائه من المبدعين والأدباء، وكان يتطلع إلي السماء من خلال التليسكوب الفلكي ليراقب حركة الكواكب والنجوم، وكان يجلس أمام الكاميرا بتلقائيته ليتحدث بعقلانيته المعهودة لملايين البشر عبر برنامجه التليفزيوني الشهير (العلم والإيمان) الذي يفسر فيه للناس معجزات الخلق وظواهر الكون في لغة بسيطة للغاية مبتعدة عن التقعر والتحذلق والرغبة في التأكيد علي أنه مثل هؤلاء البسطاء من المشاهدين، كما كان يتابع بنفسه بروفات نصوصه المسرحية وهي تتخلق علي خشبة المسرح وتدب فيها الحياة علي يدي مخرجين كبار مثل جلال الشرقاوي الذي حرص علي أن يشيعه ظهر أمس إلي مثواه الأخير، ولانزال نذكر هذا النص العبقري الذي أخرجه جلال الشرقاوي لمصطفي محمود حول (غوما المحمودي) هذه الشخصية الليبية التي قدم مصطفي محمود معالجة درامية رائعة لها علي خشبة المسرح، ولكم كان مصطفي محمود شجاعا وهو يطلع قراءه علي تحولاته الفكرية من الشك إلي الإيمان.
لقد فقدنا بحق مبدعا نبيلا ومفكرا عظيما قدم تفسيرا عصريا للقرآن الكريم وكان يؤمن بأهمية الفن في حياة الإنسان مهما بلغ تدينه، كما كان مثلا يقتدي به في الاهتمام بغيره من الأدباء في ظروفهم الصعبة، فلا تزال الذاكرة تحتفظ له بموقفه النبيل من الناقد الراحل جلال العشري وهو يحتضر في أيامه الأخيرة، فكان مصطفي محمود هو الذي يشرف بنفسه علي علاجه، كما كان في مقدمة مشيعيه.
ويذكر الدكتور محمد صابر عرب، رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية والرئيس الجديد للهيئة المصرية العامة للكتاب، أن الدكتور مصطفي محمود ترك للمكتبة العربية 89 كتابا منها العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية إضافة إلي الحكايات والمسرحيات وقصص الرحلات.
ويوضح الدكتور أحمد مجاهد، رئيس مجلس إدارة هيئة قصور الثقافة، أن مصطفي محمود شيد في الستينيات من القرن الماضي نمطا من المسرح المصري تميز ببصمته المتفردة مثله في ذلك مثل: رشاد رشدي، ألفرد فرج، ميخائيل رومان، محمود دياب، وربما يوسف إدريس أيضا. وقد نجح في أن يجتذب لمؤلفاته الفكرية والأدبية جمهورا واسعا من القراء ربما لم يتوفر لكاتب من معاصريه مما ترك أثره في كثير من النفوس.
أما الدكتور حسن محمد وجيه، خبير التفاوض الدولي، فيري في مصطفي محمود أنموذجا للمفكر المتصالح مع نفسه، والعقل الذي يجمع بين فضيلتي العلم والإيمان، مما كان له الفضل في إضاءة ملايين العقول، وهذا يحسب له في ميزان حسناته. وفي الإسكندرية يقول الشاعر فؤاد طمان: لكم كنا نود أن يسهم أدباء الإسكندرية جميعا في توديع الدكتور مصطفي محمود إلي مثواه الأخير، لكن الوقت لم يتح لنا ذلك، فقد دفن بعد ساعات معدودات من رحيله صباح أمس، غفر له الله ذنوبه ونفعنا بما تركه لنا من علم وإبداع جميل ومشروعات خيرية تظل تشهد علي حبه لهذا الوطن ووفائه وشقيقه لوالديهما.
أما الدكتورة لوتس عبد الكريم، صاحبة آخر كتاب صدر في سلسلة كتاب اليوم بعنوان (مصطفي محمود.. سؤال الوجود) فتقول: كنت دائمة السؤال عنه، وقد علمت من أسرته أن حالته شهدت تدهورا شديدا في الشهور الأخيرة مما دفع الأطباء إلي منع الزيارة عنه نهائيا وهذا أقلق الكثير من محبيه. وأطالب الهيئات الثقافية في مصر بالاهتمام بتراث هذا الرجل الذي ظلم كثيرا في حياته فلم ينتبه أحد إلي عقد ندوة موسعة أو مؤتمر علمي لبحث تأثير مصطفي محمود في إبداعنا الأدبي أو مسرحنا المعاصر.
وكان الناقد الكبير الراحل الدكتور لويس عوض قد توقف أمام ظاهرة في إبداع مصطفي محمود وهو يدرس أعماله الأولي عندما قال: »لست أدري ما سر هذا الحزن الهادئ الذي يشيع في أعمال قصاصنا الشاب الدكتور مصطفي محمود، فالذي لا شك فيه أن أكثر قصص مصطفي محمود قصص حزينة، وهو كلما انتقل من مجموعة إلي مجموعة انتقل من حزن إلي حزن وفي هذه المجموعة الأخيرة من أعماله، وهي (شلة الأنس) نجده لا يقل حزنا عنه في كتبه السابقة مثل (المستحي)، أو (قطعة السكر)، أو (أكل عيش)، وحتي كتبه المتفلسفة مثل (الله والإنسان)، و(لغز الموت) كتب يشوبها الحزن كذلك، ولكن حزن مصطفي محمود حزن هادئ لا حزن عنف، ولأنه حزن هادئ ورتيب لا تتخلله أفراح ولا تقطر منه دموع، أراه حزنا عميقا مخيفا يدعو المرء إلي تأمله وتأمل صاحبه، ويفضي إلي السؤال الوحيد: تري هل ظهرت في أدبنا مدرسة المتشائمين؟«.
مصطفي محمود في سطور
ولد الدكتور مصطفي كمال محمود حسين آل محفوظ، عام ١٢٩١ ، ينتهي نسبه إلي عليّ زين العابدين وكان توأما لأخ توفي في نفس العام، هو مفكر وطبيب وكاتب من مواليد شبين الكوم بمحافظة المنوفية توفي والده بعد سنوات من الشلل، درس الطب وتخرج عام 1953 ولكنه تفرغ للكتابة والبحث عام 60 تزوج عام 61 وانتهي الزواج بالطلاق رزق بولدين "أمل" و "أدهم" ، تزوج ثانية عام 1983 وانتهي هذا الزواج أيضا بالطلاق عام ٧٨٩١.
عاش مصطفي محمود في مدينة طنطا بجوار مسجد "السيد البدوي" الشهير ، بدأ حياته متفوقًا في الدراسة، حتي ضربه مدرس اللغة العربية؛ فغضب وانقطع عن الدراسة مدة ثلاث سنوات إلي أن انتقل هذا المدرس إلي مدرسة أخري فعاد مصطفي محمود لمتابعة الدراسة.
وفي منزل والده أنشأ معملاً صغيرًا يصنع فيه الصابون والمبيدات الحشرية ليقتل بها الحشرات، ثم يقوم بتشريحها، وحين التحق بكلية الطب اشتُهر بـ"المشرحجي"، نظرًا لوقوفه طول اليوم أمام أجساد الموتي، طارحًا التساؤلات حول سر الحياة والموت وما بعدهما. وقدم 400 حلقة من برنامجه التلفزيوني الشهير (العلم والإيمان) وأنشأ عام 1979 مسجده في القاهرة المعروف بمسجد مصطفي محمود ، والذي يتبع له ثلاثة مراكز طبية تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود ويقصدها الكثير من أبناء مصر ،ويضم المركز أربعة مراصد فلكية ، ومتحفا للجيولوجيا، يقوم عليه أساتذة متخصصون.،ويضم المتحف مجموعة من الصخور الجرانيتية، والفراشات المحنطة بأشكالها المتنوعة وبعض الكائنات البحرية.
برع الدكتور مصطفي محمود في فنون عديدة منها الفكر والأدب، والفلسفة والتصوف، وأحيانا ما تثير أفكاره ومقالاته جدلا واسعا عبر الصحف ووسائل الإعلام.
تعرض لأزمات فكرية كثيرة كان أولها عندما قدم للمحاكمة بسبب كتابه (الله والإنسان) وطلب عبدالناصر بنفسه تقديمه للمحاكمة بناء علي طلب الأزهر باعتبارها قضية كفر ، إلا أن المحكمة اكتفت بمصادرة الكتاب بعد ذلك أبلغه الرئيس السادات أنه معجب بالكتاب وقرر طبعه مرة أخري.
كان صديقا شخصيا للرئيس السادات ولم يحزن علي أحد مثلما حزن علي مصرعه يقول في ذلك "كيف لمسلمين أن يقتلوا رجلا رد مظالم كثيرة وأتي بالنصر وساعد الجماعات الإسلامية ومع ذلك قتلوه بأيديهم." وعندما عرض السادات الوزارة عليه رفض قائلا: "أنا فشلت في إدارة أصغر مؤسسة وهي زواجي فقد كنت مطلقًا لمرتين فأنه أرفض السلطة بكل أشكالها". فرفض مصطفي محمود الوزارة كما سيفعل بعد ذلك جمال حمدان مفضلا التفرغ للبحث العلمي..
تعرض لأزمة كبيرة عندما أصدر كتاب "الشفاعة" والتي قال إن الشفاعة الحقيقية غير التي يروج لها علماء الحديث ، وهوجم وقتها بـ14 كتابا للرد عليه ، ولم يدافع عنه سوي الدكتور نصر فريد واصل مفتي الديار المصرية الأسبق .
فاجأته محنة أدت به إلي أن يعتزل الكتابة إلا قليلا وينقطع عن الناس حتي أصابته جلطة مخية عام 2003 وعاش منعزلا وحيدا.